باتت أسعار صرف الليرة التركية خلال السنوات الماضية، قضية تشغل بال المقيمين في تركيا والجاليات العربية والسياح بسبب عدم استقرارها وتأثيرها المباشر على ارتفاع ثمن السلع والخدمات.
فخلال السنوات الأخيرة شهد سعر صرف الليرة التركية أمام الدولار والعملات الصعبة، تقلبا وتراجعا واضحا.
وفي ظل الاهتمام العربي الكبير بتركيا خلال السنوات الأخيرة، تُطرح الكثير من التساؤلات حول أسباب عدم استقرار سعر الصرف وعلاقة ذلك بمعدل الفائدة والتضخم.
ولأجل فهم القضية وتبسيطها على جمهورنا العربي، توجهت منصة أوراق إلى الباحث الاقتصادي د. أحمد مصبح وأجرت حوارا معه.
تذبذب واضح
حول انخفاض سعر صرف الليرة التركية، يقول الباحث د. أحمد مصبح، إن مسلسل انخفاض سعر صرف الليرة التركية بدأ من منتصف أغسطس/آب 2018، إذ انخفضت قيمتها من 4.8 ليرة مقابل الدولار لتصل إلى أكثر من 7 ليرات.
ويوضح مصبح، أن العديد من الأسباب ساهمت آنذاك في حدوث هذا الانخفاض الدراماتيكي ومن أهمها الخلاف بين تركيا والولايات المتحدة بسبب قضية القس الأمريكي.
إذ فرضت بموجبها الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية على تركيا، ما أدى إلى تصاعد وتيرة الحرب التجارية أثناء حكم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.
كما يشير الباحث مصبح إلى أسباب أخرى، مثل وجود مجموعة من المشاكل الهيكلية في الاقتصاد التركي ومنها عجز الحساب الجاري المزمن، وأسعار الفائدة المنخفضة، وتوجه المواطنين الأتراك إلى تحويل مدخراتهم إلى الدولار بدلا من الليرة التركية.
وفي عام 2019، اتخذت الحكومة التركية مجموعة من الإجراءات الاقتصادية على رأسها رفع أسعار الفائدة والتي وصلت إلى أرقام قياسية في حينه، وغيرها من الإصلاحات.
وساهمت هذه الإجراءات الاقتصادية وانتهاء بعض الأزمات الدبلوماسية في استعادة الليرة التركية عافيتها مرة أخرى ووصلت إلى حدود 5.5 ليرة مقابل الدولار، واستمرت على هذا السعر قرابة عام.
ولكن، يشير الباحث أحمد مصبح إلى أن تأثير إجراءات عام 2019، لم تدم طويلا، فمع بداية انتشار فيروس كورونا في 2020، وصلت تداعيات الجائحة إلى جميع مناحي الحياة في تركيا، وتأثر الاقتصاد التركي بصورة سلبية.
إذ أدت الإغلاقات وحظر التجوال وتوقف حركة السياحة والتجارة إلى انخفاض كبير في سعر صرف الليرة التركية لتصل إلى 8.5 ليرة مقابل الدولار.
كما ساهم قرار البنك المركزي التركي بخفض أسعار الفائدة (على عكس التوقعات) في انخفاض أكبر في سعر الليرة التركية.
ويعرف الباحث مصبح سعر الفائدة على أنه نسبة الزيادة التي يتقاضاها المُقرض (البنوك والمؤسسات المالية) من المقترض نظير عملية الإقراض، أو ما يستلمه المودع مقابل إيداع النقود في البنك أو أي مؤسسة مالية.
بمعنى آخر هي نسبة الأرباح التي يتلقاها المودع من البنك نظير عملية الإيداع، فما العلاقة بينها وبين الليرة؟
العلاقة بين نسبة الفائدة والليرة التركية
يؤكد أحمد مصبح، أن نسبة الفائدة من منظور اقتصادي هي أداة نقدية وليست نقطة خلافية، فالتعامل مع أسعار الفائدة اقتصاديا سواء رفع أو خفض يهدف إلى خلق توازن في الاقتصاد.
فعندما يكون هناك تضخم وارتفاع في الأسعار يصبح لزاما على البنك المركزي اتخاذ إجراءات تتلائم مع هذا الطارئ.
ومن هذه الإجراءات رفع أسعار الفائدة بهدف سحب الأموال من السوق، وإبطاء معدلات الإنفاق والإنتاج لفترة زمنية حتى تعود الأسعار إلى طبيعتها بشكل تدريجي (هذا على فرض أن سبب التضخم هو زيادة المعروض).
يضيف الباحث مصبح، أنه بعد جائحة كورونا توجهت معظم دول العالم إلى تبني سياسات رفع أسعار الفائدة، للسيطرة على معدلات التضخم خاصة بعد ارتفاع أسعار السلع الأساسية حول العالم.
لكن الحكومة التركية أصرت على تخفيض أسعار الفائدة بالرغم من تضخم الأسعار عالميا.
وأصرت على زيادة المعروض من النقود في السوق وزيادة ضخ الليرة والإنتاج، الأمر الذي ترتب عليه زيادة أكبر في الإنفاق والطلب وبالتالي تفاقم في معدلات التضخم، وانخفاض في قيمة الليرة التركية.
يكمل مصبح أن الليرة التركية استمرت في الانخفاض خلال عام 2022 لتصل إلى أكثر من 18 ليرة أمام العملات الصعبة وعلى رأسها الدولار.
خاصة مع إصرار الحكومة التركية على تبني سياسات توسعية تعتمد على أسعار الفائدة المنخفضة بالرغم من اضطرابات الاقتصاد العالمي وارتفاع معدلات التضخم لأرقام قياسية بسبب الحرب الروسية الأوكرانية وارتفاع أسعار النفط.
فوائد انخفاض نسبة الفائدة وأضراره على الاقتصاد التركي
يوضح مصبح أن رفع أسعار الفائدة يعني تعطل عجلة الاستثمار والنمو الاقتصادي، وعليه سيؤدي ذلك إلى تعطل المشاريع الاقتصادية للدولة، ومعاناة الاقتصاد من حالة من الركود والانكماش.
وستكون تداعيات ذلك على المواطن التركي أكبر من تداعيات انخفاض سعر صرف الليرة التركية أو ارتفاع معدلات التضخم.
وينوه إلى أن الحكومة التركية ترى أن الصبر المؤقت والمرحلي على ارتفاع الأسعار أقل ضررا من تبني سياسة انكماشية، خاصة أن الحكومة في السنوات الأخيرة، بدأت تعزز الاستثمار في القطاعات الصناعية والعسكرية والتكنولوجية والزراعية.
وعليه فإن رفع أسعار الفائدة سيشكل عقبة أمام هذه المشاريع، كما ترى الحكومة أن رفعها في هذه المرحلة لن يُخفض التضخم وسيكون له آثار سلبية أكبر.
وحول إمكانية تحسن سعر الصرف على المدى القريب، أجاب مصبح أنه بحسب توقعات البنك المركزي التركي، سيصل سعر صرف الليرة التركية أمام الدولار بنهاية عام 2022، إلى 19.8، كما يُتوقع أن يصل سعرها إلى 23 ليرة مقابل الدولار في نهاية عام 2023.
وعليه فإن الحديث عن استعادة الليرة التركية لقيمتها على المدى القريب أمر مستبعد، وفق تقديره.
العلاقة بين التضخم وقيمة الليرة التركية
يعرف الباحث مصبح التضخم على أنه النسبة المئوية التي تعكس ارتفاعا مستمرا في الأسعار لمجموعة من السلع والخدمات مقارنة بالشهر الماضي أو السنة الماضية لنفس السلع والخدمات، ويمكن ترجمته على أنه انخفاض في القوة الشرائية بمرور الوقت.
يشرح مصبح "عندما نقول إن معدل التضخم 5% لهذا الشهر، يعنى أن الأسعار قد ارتفعت بـ5% مقارنة بالشهر الماضي، وأن القوة الشرائية لليرة التركية انخفضت بنسبة 5% لهذا الشهر مقابل الشهر الماضي".
ويشير في ختام حوارنا معه إلى مجموعة من العوامل الأساسية اللازم توافرها لكي تبدأ معدلات التضخم في تركيا بالانحسار:
- خفض تدريجي للإنفاق وزيادة أسعار الفائدة بما يتلائم مع المتغيرات الطارئة والتضحية بالنمو الاقتصادي للبلاد.
- استقرار سعر صرف الليرة التركية.
- توقف الحرب الروسية والاوكرانية، وعودة أسعار السلع العالمية بشكل تدريجي إلى طبيعتها.
- انخفاض أسعار النفط والغاز.
- تحسن في مستويات سلاسل التوريد وحركة التجارة العالمية.